الرئيسية
مدينه ألمانيه صغيره.. كل شئ فيها هادئ.. الناس والحيوانات والأشجار.
الكل يمشي او يجري او يقف علي قاعدة من حديد. لا يهتز ولا يهز احدا ...
فالناس لا يقولون شيئا ... فالكل يعرف ما يدور في رأس الكل..
حتي الأمطار والعواصف تستأذن قبل ان تجئ ... حتي السماء تبعث بالبرق يضئ
الطريق للرعد ليوقظ اهل مدينه نورمبرج الهادئه واحدا واحدا... حتي لا ينزعج
احد .. او حتي لا تفسد علي الناس نعمه الاثاره ... ومتعه المفاجأه ولذه الشئ
الجديد..
ولهذا عندما جاء الشاب المجهول الي المدينه تعلقوا به. انه حدث هائل .. انه
قنبله.. انه السماء انطبقت علي الارض .. انه القمر عانق الشمس .. فالليل
والنهار واحد متصل..
ففي 28 مايو سنه 1828 تقدم شاب في السابعه عشر من عمره يدق باب رجل سباك.
ويتقدم منه حتي يكاد يدوس عليه , ويعطيه خطاب .. الخطاب موجه لقائد سلاح
الفرسان في المنطقه . ويساله السباك وهو ينظر الي ملابسه المتنافره التي التقت
علي جسمه لاول مره, ولا بد انها ملابس مساهمه من اناس كثيره
سأله : ومن انت؟
انا كاسبر
من هو ابوك ؟
لا اعرف
ومن اين؟
لا اعرف
وماذا تريد؟
حصانا ... وفارس.
الشاب كاسبر في صحه جيده جيدا ولكنه لا يعرف من اللغه الالمانيه الا بضع كلمات
اشهرها : لا اعرف واكثر انتشارا علي لسانه : حصان ... فارس
فهو يريد ان يكون فارسا ليركب الحصان . وهو لذلك جاء بهذه الرساله الي قائد
سلاح الفرسان.
ورأي الشاب شمعه موقده .. فمد أصبعه اليها فأحرقته .. فصرخ .. واندهش
السباك لهذا الاسلوب الغريب .. كأن الشاب لا يعرف ان الشمعه تحرق . او كأنه
رأي شمعه لاول مرة في حياته.
ولم يكد الشاب يري الخبز الاسود حتي التهمه دون أذن . ثم جلس علي مقعد ساكنا
ينظر الي لا شئ ... وهو لا يري دهشه التي عيرت ملامح السباك وزوجته والاولاد....
وذهب به السباك الي قياده سلاح الفرسان وقدم لهم هذا الشاب الغريب.. وتعددت
الاسئله .. وواجهها الشاب .. باجابه واحده : لا اعرف
ولا حظوا عليه يمد وجهه الي الامام كأنه حريص علي ان يشم الطريق...
وجاء قائد سلاح الفرسان وفتح خطاب الشاب كاسبر.
الخطاب يقول: "عزيزي القائد ... ابعث اليك بطفل أرجو ان تجعله احد جنود
صاحب الجلاله.. الامبراطور .. وفي سلاح الفرسان بالذات . فقد كان ابوه ضابطا
وانا لا اعرف اباه.
فقد اتوا به الي يوم 7 اكتوبر سنه 1812 وانا سيده فقيره وعندي أطفال احوج
للعنايه والرعايه . ولكني ربيته كأولدي تماما ولم اسمح له بأن يخرج من البيت.
حبسته ... هكذا أمروني وهو لا يعرف اين كان ومن انا . لقد جئت به الي هنا
ليلا . وهو لا يعرف كيف يعود. فقد سلكت به طرقا ملتويه. واذا اراد فلن
يستطيع. فليس في جيبه مليم واحد. ولا في جيبي واذا لم تستطيع ان تجعله جنديا
فابعث به الي ابيه الذي توفي منذ سنوات"
ثم اخرج الشاب من جيبه خطابا اخر.. والقي به عن قدمي قائد سلاح الفرسان .
الخطاب بخط مختلف تماما اكثر ثقافه واناقه . ويقول:
"هذا الشاب اسمه كاسبر هاوزر. ارجو العنايه به. وارجو ان يكون في سلاح
الفرسان عندما يبلغ السابعه عشر لقد ولد هذا الشاب يوم 30 ابريل سنه 1812
. وانا سيده فقيره جدا. ولوكنت استطيع ان اصنع له شيئا لابقيه عندي ضمن
اولادي . ولكن اباه مات وزوجي مات.. وما اقسي الحياه لسيده شريفه, وحريصه
علي ذلك .. ولو لم اكن اما .. لارحتك وارحته وقتلته. وانهم هكذا اوصوني اذا
ضاقت السبل في وجهي, فأرجوا الا تضيق في وجهك فتضيق به. وشكرا يا سياده
القائد.. جزاك الله خيرا عن طفل اصبح شابا ولا ذنب له في شئ.. ولن تكون دهشتك
اكثر من دهشتي .. اذا رايت شيئا غريبا او عجيبا ..فكلانا لا يعرف اكثر مما
قلت لك"
وكان لابد ان يقوم قائد الفرسان بتفتش هذا الشاب .. تفتيش جيوبه وتفتيش
عقله وذاكرته. طلب اليه ان يكتب اسمه علي ورقه .. فكتب اسمه . وحاول ان
يستدرجه الي ان يقول اي شي.. وقال الشئ الوحيد الذي يعرفه: الحصان والفارس
ولا اعرف!
قال: عبيط...
وقالوا:بل انهم منعوه من ان يتعلم لاسباب لا يعرفها احد.
اما ملامح هذا الشاب في محاضر البوليس او الجيش ... لم يكن هناك فرق بينهما في
ذلك الوقت.. فهو انه طويل .. ممتلئ .. بشرته ناعمه .. لاونه ابيض شاحب ..
عيناه واسعتان زرقاوان.. ولكنه اذا مشي يبدو كما لو كان كسيحا.. وهو ليس
كذلك.
انما فقط كان حبيسا في مكان ضيق. تحت الارض . ولم تكن لديه فرصه للمشي .. وفي
استطاعه هذا الشاب ان يجلس علي اي مقعد دون حركه ساعات طويله.
وادخلوه في غرفه لعلهم يعرفون عنه شيئا اكثر.. ولم يصلوا الي شئ .. ووضعوا في
الغرفه سريرا.. ومقعدا. ترك السرير وجلس علي المقعد حتي الصباح.. ولما
اطلفئوا الشموع في غرفته لم يعترض . ولكنه اذا تحرك في الغرفه في الظلام , لاي
سبب فأنه لا يصطدم بشئ. انه يري في الظلام كأي كلب او قط.
انتشرت القصه بين اهل نورمبرج.فما الذي لم يقله احد؟
ما الذي لم يتخيله احد؟ ان المدينه قد احتشدت .. علت وهبطت . واتسعت
وضاقت .. والتقي اولها باخرها . وانفتحت نوافذها علي ابوابها وخرجت الالسنه,
ودارت في التاريخ القديم والجديد.
وكانت تسليه النساء ان يقارن بين ملامح الشاب وبين كل غانيه او بنت ليل او
نبيله او دوقه. لابد انه ابن غير شرعي لاحد النبلاء .. وانها فرصه نادره لكي
تصبح الفضيله هي المؤهل الوحيد لكل الذي لا صفه لهم ولا ضع ولا مركز ولا دم
نبيلا. لقد جاء الشاب فرفع سعر القيم الاخلاقيه, وحط العروش والتيجان. انه
ابن غير شرعي. ما في ذلك شك!
ويتساءل الناس : لماذا يحب الخيول دون عن بقيه الحيوانات الاخري؟ لابد انه رأها
في اسطبلات ابائه...
والا.. فكيف يفضل ان يجلس علي المقعد دون السرير؟ لابد انهم لقنوه انه سوف يجلس
علي العرش. ويجب ان يتمرن علي ذلك. فالعروش ليست مريحة .. انها من الخشب
والذهب. أي من الخشب والمعادن الجافه البارده. ولكن العروش هي وحدها التي تحمي
من يجلس عليها من شر الذين يقفون امامها وحولها.
وجاء الناس من جميع المدن الالمانيه يتفرجون ويقارنون ويعودون بمزيد من القصص
و الخرافات والاتهانات والشائعات. والشاب بدأ يحفظ مفردات أخري وبسرعه. أذن
ليس ابله ولا عبيطا . انهم فقط حرموه من التعليم...
شئ غريب: المدينه كلها عندها ارق . اما هو فينام بعمق. كأنه ولد لينام.
وكأنه استولي علي نوم المدينه كلها. وكان الشاب يصحوا من النوم فيجد ملابسه
وحذاءه قد تغيرت جميعا. ولا تبدو عليه ايه دهشه. ويقولون : طبعا انه نبيل
ابن نبيل . لقد اعتاد علي ان يجد من يوقظه ومن يطعمه ومن يكسوه دون ان
يفكر في ذلك . وهل هو مثلنا يصنع كل شئ لنفسه؟
حتي العلماء ذهبوا ليروا. فقد جلس اليه الفقيه الجنائي فون فويرباخ ساعات
طويله.. ولم يشأ ان يقول لاحد ما الذي يفكر فيه. ولكنه أعلن : بصراحه هذا
الشاب هو ابن غير شرعي لأحد النبلاء. وقد اخفاه تحت الارض لاسباب تتعلق بوراثه
العرش في احدي الامارات الالمانيه!!.
وزاره بعض الاطباء. واكتشف أحد الأطباء أن لديه قدره علي الشم غير عاديه.
ولابد ان يكون قد اكتسب هذه القدره اثناء سجنه الطويل. فهو لا يعرف الكلام.
ولا يحتاج ان يستخدم يديه او رجليه. ولابد ان تكون قدرته علي الرؤيه في الظلام
قد نمت مع قدرته علي الشم. وكانوا يخفون الطعام في أماكن مختلفه من البيت
الذي نقلوه اليه. وكان يذهب ويحضر الطعام في الظلام . ولم يخطئ مره واحده!!!
حاول الأمراء ان يتكلم علي مسمع منه لغه أخري. وكان الشاب يلتفت عند سماع
بعض الكلمات. وعاد الأمراء وهم علي يقين انه من اصل مجري نمساوي.
وفي 17 أكتوبر سنه 1829 وجدوا الشاب ساقطا علي الارض مغمي عليه. ولما افاق
قال: أن رجلا مجهولا ضربني علي راسي!
وحاول البوليس ان يعثر علي هذا الرجل فلم يجدوا احدا...
وقررت المدينه حمايه الشاب فكان يراقبه ليلا اثنان من رجال البوليس.
وعاود المدينه الهدوء من جديد. وتعبت من حكايه هذا الشاب المجهول.. انها قصه
ممله ليس فيها جديد. الي ان جاء رجل انجليزي من النبلاء اسمه اللورد شانهوب.
واعلن انه مهتم جدا بهذا الشاب. وليس وحده .. ففي بريطانيه كثيرون قلقون
عليه وعادت المدينه الهادئه الي اهتمامها بالشاب : كي اهتم الانجليز به؟
ولماذا؟ وكيف يجئ نبيل انجليزي الي المدينه ليسأل عنه ويقيم الي جواره شهرا
كاملا؟ لابد انه طفل هام جدا؟ وهذا يؤكد انه ابن ملكي.. لاشك في ذلك..
وفي احد الايام سمع عيار ناري في غرفه الشاب. وبعد ذلك عرفوا ان يده قد
اصطدمت خطأ باحدي البنادق المعلقه علي الجدار لحمايته...
وأدي هذا العيار الناري الي مضاعفه الاهتمامات والتساؤلات.
وفي مايو سنه 1833 وفي ظروف غامضه اصيب الفقيه الجنائي فون فويرباخ
بالشلل... ثم مات بأيام.
ويوم 14 ديسمبر سنه 1833 عاد هذا الشاب ألي البيت والدماء تنزف من صدره...
لقد طعنه مجهول بسكين في جانبه الأيسر. فقد تحدث اليه. ثم اعطاه خطابا.
قال له : ضعه في جيبك الان ... واقراه في البيت!
وفي هذه الحظه طعنه واختفي...
وحاول البوليس ان يعثر علي المجهول ... ولكن لم يفلح .. وعاد الفزع يجتاح
المدينه... خوفا علي صحه الشاب... وخوفا علي مصدر الاثاره في المدينه!!!
وعندما فتشوا جيوب الشاب وجدوا الخطاب..
ويقول : هذا الشاب بدأ يتعلم وبسرعه.. وسوف يخبركم من هو .. وسوف تعرفون
هذه القدرات الخفيه التي يملكها والتي لم تظهر بعد.. وحان موعد ظهورها .. انه
شمشون جبار ومن نوع خاص... ولكن حتي لا تنفجر فيه هذه القدرات .. قررنا ما
تعرفونه الان..
ومات الشاب كاسبر هاوزر يوم 17 ديسمبر 1833.
اما التقرير الذي كتبه رجل الفقه الجنائي فون فويرباخ فلم يشأ ان ينتشر الا
بعد وفاته... ويقال انه تلقي مبلغا كبيرا من المال حتي لا ينشر هذا التقرير
ولكن بعد وفاته طبع هذا التقرير.. وهو يقطع بان الطفل هو ابن دوقه
بادن... وانه علي يقين من ذلك .. وصادرته ولايه بادن.. وكذلك الولايات
والامارات الالمانيه و النمساويه والمجريه... فأدي ذلك الي انتشاره..
ويقال ان الفقيه فويرباخ قد مات مسموما...
وعاد الرجل السباك يعترف بأن هذا الشاب عندما جاءه يسأل عن قائد سلاح
الفرسان لم يرافقه الي بيت القائد . وانما أشار اليه ان يمشي اليه ويسأل
الناس عنه ... وسار السباك وراء الطفل الذي اعتمد علي انفه واتجه الي بيت
القائد دون ان يسأل أحدا من الناس ... وكان البيت في أطراف المدينه!!
اما البوليس فقد اعلن انه يوم طعن هذا الشاب بسكين لم يجدوا اثار اقدام احد
من الناس سواه... اما الذي طعنه فلم يجدوا له اثرا او شبيها بين كل سكان
المدينه..
انا قائد سلاح الفرسان فقد اعترف بشئ غريب... قال انه الان يسطتيع ان يقول
الحقيقه.. وقد خشي علي اناس منه .. وخشي علي نفسه ايضا من ان يتهمه الناس
بالجنون... فقد كانت لهذا الشاب خاصه عجيبه... كانوا يرددون علي مسامعه
اسماء بعض الناس وكان يصرخ عند سماع الاسماء... ومن الغريب ان كل انسان صرخ
عند اسمه مات في نفس اللحظه... او بعد ذلك بقليل . فعل ذلك سبع مرات في
يومين ... بل ان قائد سلاح الفرسان كان يداعبه ويقول له : وما رايك في
جوستاف الصغير.
وصرخ الشاب عند سماع هذا الاسم ... ولكن القائد ضحك قائلا : هذه المرة أخطأت
فجوستاف هذا هو الاسم الذي اقترحته لحفيدي الذي سوف يولد بعد ايام...
وولد الحفيد ميتا في نفي اليوم!
وقال قائد سلاح الفرسان في التقرير المكتوب المحفوظ في السجلات العسكريه لمدينه
نورنبرج الالمانيه: " ولا اغرف كيف قررت ان اقلب هذه الكارثه علي راسه ...
فقلت له : وما رايك في كاسبر هاوزر"
" والذي قررته شئ فظيع: لقد ظل الشاب يصرخ ويرفع أنفه الي أعلي . ويدق
صدره وجانبه الايسر... ومن العجيب انه في اليوم التالي قد طعن في قلبه وتوفي
بعد ذلك بأيام"
وم الصدفه الغريبه انني تلقيت من د.أحمد عبدالعال أنه كان يقتني الكلاب
السوداء. وهو يتفاءل باللون الاسود من الكلاب والقطط مثل الانجليز... فقد
امضي وقتا طويلا يدرس في انجلترا...
وان احد هذه الكلاب اذا عوي عند الفجر فأن شيئا مؤلما لابد ان يحدث... عوي
الكلب امام غرفة والدته فمرضت وماتت في اسبوع..
عوي اما غرفه والده فمات بعد ذلك بيومين ... تشاءم من الكلب فبعث به الي
اخته في الاسكندريه .. انزعجت الاخت من عواء الكلب... وروت كيف انها وجدته
يعوي عند سرير طفلها الصغير... ومات الطفل.
ولما حبسته عند البواب انزعج البواب ايضا.. وقرر البواب ان يعيده الي
السيده في نفس اليوم ولكن البواب قد قتله المصعد في حادثه مشهوره.
وتلقيت ايضا من زميل صحفي انه كان يربي سلحفاة . وقد لاحظ شيئا أزعجه..
فقد كانت السلحفاة تزحف اليه ثم تضرب راسهل مرتين وثلاثا بصورهه واضحه في رجل
المكتب.. وبعد كل مره يموت له احد .... ماتت والدته واحدي قريباته والده!!!
واعترف أحد الاطباء انه عندما كشف علي جثه كاسبر هاوزر لاحظ ان الجثه تضئ في
الليل... وانه لم يصدق عينيه .. وانه اضطر الي انه يؤخر دفن الجثه بضعه ايام
ليتاكد من ذلك... وانه سارع بتغطيتها تماما حتي لا يراها احد من الناس...
وربما كان هذا الشاب من سكان الكواكب الاخري!!!
م يزور مدينه نورنبرخ يجد فيها نصبا تذكاريا بين الاشجار الكثيفه. ويجد عليه
هذه العباره اللاتينيه: " مدفون هنا شخص مجهول ظهر لأسباب مجهوله.. وقتله شخص
مجهول.. لأسباب مجهوله" !!!
وان هذا الشاب ضحيه ثمره جريمه... او حتي لا تقع الجريمه ... او هو عقبة في طريق
المجد.. او قنبله فظيعه.. لقد اقامت المدينه الهادئة هذا النصب التذكاري حزنا
عليه، وامتنانا له: لأنه أنعش روحهم وانقذها من بلادة الهدوء ومرض الملل
ولعنه التواضع"
ثم ان هذا النصب التذكاري ليس ألا اصبعا من الرخام يشير الي السماء: الي
الحقيقه الكبري المجهوله لكل الناس!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
المصدر : أرواح وأشباح .. أنيس منصور
